قصائد للشَّاعرة الإيطاليَّة أماليا غولْيِلْمينِتِّي Amalia Guglielminetti (1881-1941)
أماليا غولْيِلْمينِتِّي في سطور:
وُلِدَتْ في 4 نيسان/ إبريل 1881 في مدينة تورينو. تُعَدُّ أيقونةً من أيقونات الشِّعر والفن في إيطاليا، وبطلةً للعديد من قصص الحبِّ العاصفة. تظهر في لوحةٍ جميلةٍ للفنَّان ماريو ريفيليونِه مستلقيةً على أريكةٍ كإلاهةٍ من إلهاتِ الصَّمت. عندما ظهرت مجموعتها الشِّعريَّة الثَّانية "عذارى مجنونات" سنة 1907 استُقبلتْ بحماسةٍ أكبر من تلك التي حظيت بها مجموعتها الأولى "أصوات الفتوَّة"، وقد قال عنها الشَّاعر والنَّاقد الإيطالي أرتورو غراف آنذاك إنَّه لم يقرأ في حياته أبداً قصائد بهذا الجمال تجمع ما بين أدب دانتي وأدب بتراركا. في حين رأى النَّاقد دينو مانتوفاني في أماليا مزيجاً من الشَّاعرتين الإيطاليَّة "غاسبارا ستامبا" واليونانيَّة "سافُّو". أمَّا الشَّاعر غويدو غوتسانو، الذي بدأ معها علاقة حبٍّ بعد فترةٍ قصيرةٍ من ظهور "عذارى مجنونات"، فكتب ردَّاً على ذلك: "إنَّ سوناتاتها، المتناغمة من النَّاحية الفنِّيَّة، والرَّشيقة الأسلوب، والرَّفيعة بثراء قوافيها [...] إنَّما تتفوَّق على سوناتات غاسبارا ستامبا"، وإنَّ أماليا "تقود بقصائدها القارئ عبرَ دوائر ذلك الجحيم المسمَّى عُذريَّةً".
* * *
لم ينحصر حضور غوتسانو في دورِه كناقد، بل كان طيفه حاضراً بقوَّة في مجموعتها الشِّعريَّة "الإغواءات" 1909، والتي تبدو لا أكثر من يوميَّات حبٍّ عاصفٍ. كانت جليَّةً إذاً الصِّلة ما بين "الإغواءات" والرَّسائل المتبادلة بين العاشقين؛ بيدَ أنَّ الشَّاعر، ما إن خمدت حمَّى العشق عندَه حتَّى اعترف علانيةً بجفاف مشاعره ووصف الأمر على أنَّه لا يعدو كونه علاقة أخوَّة ألهمها انصرافهما المشترك إلى الشِّعر. في سنة 1913 صدرت مجموعتها الشِّعريَّة "المؤرَّقة"، وبعد موت غوتسانو سنة 1916 انقطعت أماليا عن كتابة الشِّعر واتَّجهت إلى القصَّة والمسرح. نشأت علاقة حبٍّ لم تدم طويلاً بينها وبين الكاتب الإيطالي دينو سِغْرِه المعروف باسمه الأدبي "بيتيغريللي". في سنة 1935 انتقلت إلى روما بغية العمل في الصِّحافة، ولكنَّها لم تحرز نجاحاً يُذكَر فقفلت بعد سنتين عائدةً إلى تورينو لتمضي آخر سنوات حياتها في عزلة. توفِّيت في 4 كانون الأوَّل/ ديسمبر 1941 إثر إصابتها بإنتانٍ في جرحٍ أصابها جرَّاء سقوطها عن الأدراج وهي تسرع لأجل بلوغ أحد الملاجئ عندما سمعت دوي صفَّارات الإنذار. في سنة 2012 أعاد النَّاشر "بْيِيتِّي" إصدار أعمالها الشِّعريَّة والرَّسائل المتبادلة بينها وبين غويدو غوتسانو في كتابٍ من إعداد وإشراف الشَّاعر والمترجم الإيطالي سيلفيو رافُّو تحت عنوان "السَّيِّدة ميدوسا. حياة، وقصائد، وقصص حب أماليا غولْيِلْمينِتِّي".
* * *
النُّصوص:
[من مجموعة "عذارى مجنونات" 1907]
ليليَّةٌ
لكنْ ألا تسمعين طرقاً خجولاً،
نقراً خفيفاً على بلَّور نافذتك؟
أصغي قليلاً: كأنَّ ثمَّة مَن يستعطِف،
وفي الخارج ظلامٌ، والنُّجومُ قلائل.
كلُّ السُّنونواتِ عَبَرْنَ البحرَ،
خوفاً من نهارات الشِّتاء المدلهمَّة.
إلَّا هذه، فهي قبل أن يحجِّرَها الصَّقيعُ،
تحاولُ الهربَ: عاجزةً عن الرَّحيل.
جريحةٌ هي، والدَّمُ يتخثَّرُ
قطرةً قطرة على قلبها الصَّغير،
والدَّمُ قانٍ بين ريشٍ أسمر.
افتحي لها: في الخارج تعصفُ رياح،
أمَّا عندَكِ فأيُّ دفءٍ طريٍّ ستلقى...
آه! أنتِ لا تفتحين، والليلُ دغشٌ أسود...
*
سوناتة إلى الوسن
أيُّها الوسنُ العذب، ختمُكَ الأسودُ المرفوع
فوق الجفونِ المُجدِبةِ يدمغني.
امكثْ طويلاً فوقي، أنتَ الذي تمحو
ضجرَ الحياة وهواجسَ الفِكر.
قمِّطني بالخدَر، بسرِّكَ الذي
يسحلُ شراسةَ الشَّهوة،
فإذا بكلِّ بادئةِ ألمٍ تهوي
في خواءِ موتٍ عابر.
لا تهبني أحلاماً؛ دعني أرقدُ
في سُبات، وأناملك على جفنيَّ،
تحت دفءِ طيلسانكَ الرَّحيب.
وإن استطعتَ، أبقِ أناملك على عينيَّ
إلى أن يصِلَ سيِّدي ويهمسَ
في أذني: - إنَّه الفجر، انهضي وأقبلي.
*
رغبة
أن أبكي بهوادةٍ، ووجهي
على كتفك، هو ما أرغب فيه،
مثلَ طفلةٍ ما عادت تطيق
السِّرَّ الذي يشعلُها ويثلِّجُها،
فدعني هكذا إلى أن أصمتَ
في الخدَرِ المبهمِ لغفوةٍ عذبة، أو
إلى أن يُرفَع السِّحرُ الأسود
عنِّي ولا يبقى منه فيَّ أثر.
سأحسُّ بقلبي يهمدُ ويخبو،
يضمحلُّ بخفَّةٍ داخلَ صدري،
تاركاً مكانَ وزنِه فراغاً أسود.
ما أعذب أن أعثر آنذاكَ بغتةً
على سكينة الرُّوح، فأصحو
وأهربُ منك، وضحكتي ترنُّ.
*
بُغيةٌ خدَّاعة
موصَدٌ هو البيت الذي انتهيتُ إليه،
مُنهَكةً من قسوة الصَّعدةِ الوعرة.
في المِفصَلاتِ ينشبُ القندولُ أشواكه،
البيتُ موصَدٌ والعتبة مُقفرة.
لكأنَّه يلدغ باستخفافِه النَّاعمِ والصَّموت
تلك الواقفة بين استحياءٍ وحيرة،
بصدرٍ لاهثٍ وأهدابٍ مُسدَلة،
مُنذِراً إيَّاها مكرَه المجنون.
ما نفعُ الوقوف؟ أيا نفْسي، ما نفعُ
البكاءِ وفمُكِ على الدَّرَجِ الذي
مكثتْ عليه قدمُ المرتقي؟
ما نفعُ أن تنادي مَن لا يَسمع أو به صمم؟
فلنمضِ الآن في دربنا الوعرة...
ولا ترتعشي هكذا، يا نفسيَ الحمقاء.
*
ارتقاء
ساعةُ انتفاضٍ تجلدُ جوانحي،
ساعةٌ لم أعرف لها من قبلُ مثيلاً أبداً،
وأبداً مع هذه الرُّوح والمشاعر العاصفة
لم أشعر أنَّني بهذه القوَّة وبهذا الجمال.
هو ذا ختمُ أحزاني يُرفع
إذ ألتذُّ الآنَ بأكثر الأعياد عذوبة:
يُخيَّلُ إليَّ أنَّني أصعد فوق عتمةٍ
جنازيَّةٍ وأشعُّ مثلَ نجمةٍ جليَّة.
آهِ أيَّتها الحياة، خفيفةٌ قدمي وقويٌّ قلبي
لكي أصعدَ سُلَّمَكِ القرمزيَّ،
وأعبرَ أبوابَكِ المسحورة.
افتحي لي، إنِّي مُقبِلة... أوه لا! أحدُهم يحدِّق بي
مِن على عتباتِك، بعيونٍ حاقدةٍ وباردة،
فإذا بي أهوي في جبِّ آلامي السَّحيق.
*
[من مجموعة "الإغواءات" 1909]
المساء
وتحبُّ، هي التي تمضي وحيدةً، أن تقفَ
آناءَ الغروبِ تحت سماواتٍ مِن مَرمر
ما تزال تشعُّ بضياءٍ شفيفٍ شفيف.
تتأمَّل الظُّلمةَ كيف ترقِّق الجبالَ
بشحوبٍ بنفسجيٍّ، والشُّعاعَ الأخيرَ
كيف يجوزُ السَّماءَ كشريطٍ طويل.
كلُّ شيءٍ يغوص، مِن ثمَّ، وراءَ حجابٍ
تلهث عليه، هلِعةً من وحدتها،
النَّجمة الأولى، كأنَّها قلبٌ مُشتاق.
أيَّتها النَّجمة الوحيدة، كَمِدةٌ هي الكلمة،
كلمةُ مَن تقول لكِ: - إنَّني مثلُكِ!-
مَن تسقط بلا نهايةٍ في الحزنِ آناءَ الليل،
ولا تجرؤ أن تبوحَ لكِ بالسَّبب.
*
شيءٌ من الكآبة
أمسِ كنتَ تنزع بيديك الشَّاحبتين
بتلاتِ الورد لأجل نساءٍ أُخَر،
ولأجلِ أخرياتٍ ستنزعُ منها غداً.
اليومَ يصفِّفُ لي فنُّكَ الرَّهيف
إكليلاً خفيفاً غضَّاً
كيما تحلَّه أصابعُ شديدةُ الرَّغبة.
معاً سنفكِّك التُّويجاتِ النَّاعمة
لننتزع منها كلَّ عذوبة،
لنتذوَّقها بفمٍ به ما به من الجنون.
مع ذلك، ولا أعرف ممَّن، يعتريني شيءٌ
من الكآبة: ربَّما من تلك المرأة
المجهولة التي ستشعرُ غداً
بلطفِ أنفاسِكَ على خدِّها.
*
قلبٌ
سمعتُ قلباً في جوفِ محرابِه
يخفق بوجيبٍ أصمَّ، سريعاً سريعا.
فسألتُ: - أهو قلبي أم قلبكَ الذي ينبض؟
سمعناه كلانا يرتطمُ بصومعته
الضَّيِّقة، مختلِجاً، مثلما يتلوَّى
في الأسر دوريٌّ صغير.
سمعنا بروحين أتلفتهما العذوبة
الوجيبَ المطابقَ والمتناغم، وكلٌّ منَّا
يسأل الآخر: - أهو قلبي أم قلبكَ الذي يدقُّ؟
سمعنا النَّبض الأصمَّ يتباطأ
ويضعفُ غُصَّةً بعدَ غُصَّة،
مع آهاتنا، كحالِ مَن ذهلَ
عن الحياة: - أهو قلبي أم قلبكَ الذي يموت؟
*
ليل
في الليل الباذخ أمضي معكَ جنباً إلى جنب.
خائفةً لا أعلم ممَّن، لا أعلم ممَّ،
أرتجفُ كثيراً وبذراعك أنشبُ أظافري.
نصعدُ، لا أعلم أيَّ صعدَةٍ،
خطوةً خطوة، والليل فوقنا بحرٌ،
وكمثل موجةٍ في البحر حياتُنا.
ما عدت أرى نظرتكَ الحامية
تحرسني في الظُّلمة. أيَّ أثرٍ نقتفي،
أين وكيف ولماذا علينا أن نمضي؟
نحو أيِّ نُهية؟ الخوف القارسُ
يوشك أن يوقفَ نبضي...
ولكنَّك بذراعين واثقتين ترفعني،
تقبِّلني برفقٍ، وتهمس لي: - ههنا.
*
نسيان
نسيانٌ عميق الهوَّةِ يحصدني وأنا هنا
ملقاةٌ على قلبك. يقيني أنَّنا ما نزال
داخلَ الحياة، ولكن خارجَ العالَم.
أعلمُ أنَّك ترغبني وأنَّني أحبُّك،
وكلُّ شيءٍ عدا ذلك مِن غبطةٍ أو ألمٍ،
خيرٍ أو شرٍّ، أدرنا له ظَهرَينا.
خُيِّلَ لي أنِّي أطيرُ على أرجوحةٍ
مدوِّخة، وكمثل طفلةٍ
كنت أتقافزُ في زرقةٍ صافية.
غير أنَّني هبطتُ بنظراتٍ زائغة
وبحنجرةٍ خنقها خفقانُ قلبي،
إذْ أنذرْتَني قائلاً: - الوقت يستعجلُ
افتراقَنا يا حبيبتي. فلنمضِ، الوقتُ تأخَّر.
*
شحوب
ستلقاني اليومَ شاحبةً، لكنَّك تعلم
أنَّني طالما كنتُ شاحبةً قليلاً. غريبٌ
كيف أنَّ وجهي لا يتَّقدُ أبداً.
وحدُه فمي يُطلِق زهرةَ رمَّانٍ
تحت قبلتِك، وقلبي يخفق،
- آهِ بقوَّةٍ يخفق!- تحتَ يدِك.
لكن سواءٌ أسُرَّتِ النَّفسُ القلقة أم ألِمَتْ،
فرخامُ الجبين ثابتٌ لا يُقرُّ
بغبطةِ الحبِّ ولا بألمِ الإنكار.
كلَّما انحنيتُ مهيضة الجناحِ على نفسي،
تحجَّرَ قناعُ الوجهِ أكثر،
لكنْ إذْ أنكسرُ الآن، تحت وطأة اللوعة،
أسفك خفيةً كلَّ ما اختزنَتْه مدامعي.
* * *
[اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي]